“من المعروف أن الإمام أحمد، رحمه الله، لم يُدوِّن أصولَ مذهبه في كتاب، ولم ينص عليها مرتبةً منتظمةً مُصرحًا لأحد من أصحابه وتلاميذه بأن هذه المصادر والأصول التشريعية هي أصول مذهبه على هذا الوجه من الترتيب الحادث فيما بعد، بل سَبَرَ المجتهدون من أتباع مذهبه من بعده -على اختلاف طبقاتهم- فتاواه ومسائله وأقواله التي دُونت، فدرسوها واستنبطوا منها أصولَه التي يستند إليها وترتيبها في المرتبة والحجيّة، وما يتفرع عن ذلك من مسائل ومباحث استُلَّت من مقالاته وفتاواه في كتب المسائل وفي روايات أصحابه.
وقد كانت الحاجةُ ماسّةً لدى بعض المدارس العلمية في العالم الإسلامي – ومنها الأزهر الشريف- إلى التعرف على مذهب الإمام أحمد، وأصوله والمسائل المتفرعة عنها، مما دعا واحدًا من علماء هذه المدرسة -وهو الشيخ محمد عبد اللطيف السبكي الحنبلي، رحمه الله، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر- إلى تصنيف رسالة في التعريف بأصول مذهب الحنابلة؛ نظرًا لكون أصول هذا المذهب لم تلقَ حقَّها من العناية والدراسة والتصوير في الأزهر، بالنظر إلى المذاهب الفقهية الأخرى، فجاءت رسالة المؤلِّف بهدف سدّ هذا الفراغ، والتعريف بأصول هذا المذهب وقواعده وأحكامه.
وانطلاقًا من أهمية هذه الرسالة، وقع اختياري عليها للعناية بها تحقيقًا وتعليقًا وإخراجها في حُلّةٍ جديدةٍ نرجو اللهَ أن ينفعَ بها، وقد تضمنت هذه التعليقات تفصيلًا لبعض ما أجمله المؤلف في مواضع، أو توطيدًا وتوضيحًا لبعض تقريرات المؤلف عن المذهب وأصوله، بالاستشهاد لها بما يعضّدُ صحتَها من تقريرات وأقوال علماء المذهب، وجميع تعليقات الكتاب هي من عملنا عليه.
واستكمالًا لعمل المؤلف، حفلت هذه التعليقات أيضًا بذكر جملة من الفروع الفقهية التي خرّجها الحنابلة على أصولهم المذكورة في الرسالة”